خطاب الكراهية من رابعة إلى حلب

المصدر: مصر العربية، 10 مايو 2015.

يخبرنا المشتغلون بدراسات الجينوسيد (دارسات الإبادة) أنّه ما من جريمة قتل جماعيّ تحدث، إلاّ ويجب أن يسبقها و يصاحبها و يتلوها “خطاب كراهية” عالي النبر ة، عنيفٌ و حادّ.
يعمد خطاب الكراهية إلى تقديم “التسويغات” والتعليلات والأعذار الكافية لضرورة اجتثاث مجموعة ما من البشر، وأهمية تخليص البشرية من شرورهم. ولسان حال المتلبسين به “لقد أعطينا الفرص الكافية لهؤلاء النّاس، واستنفدنا سبل التعايش معهم، ووصلنا إلى طريق مسدود حتى “اضطرونا” إلى وجوب التخلص منهم.”
بدون أن تتبنى الجماعة أو الجموع أو المجتمع خطابَ كراهيةٍ جمعيّ تجاه المجموعة الأصغر التي يراد التخلص منها، يتعذّر أن تجد جريمة قتل جماعية طريقها للحدوث. إذ إنّ من يرتكب القتل في هذه الحالة هو جماعة بإزاء جماعة أخرى، أو جماعة أم في مقابل جماعة فرع على رغم أنّ من يدوس على الزناد هو فرد واحد في النهاية، لكنّه فر د تنفيذي، قام بتنفيذ أمر الجماعة، ألا وهو “اقتلوا هؤلاء الأشرار  الذين يهددون أمننا وحياتنا.”
يصبح الكلام في هذه الحالة وسيلة قتل مثله مثل البندقية، ويصبح الكلام في هذه الحالة وسيلة للكلِم (وهو الجرح). تخبرنا اللغة العربية  أنّ الكلمات من جذر واحد ذات دلالات متشابكة.
يمكننا أن ننظر بعيدًا في حوادث إبادة جماعية مثل سريبرينتسا 1995 إبادة راوندا 1994 أو الأرمن 1915 ونرى كيف كان خطاب الكراهية لازمًا لحدوثها. ولكن، لا يلزمنا الذهاب بعيدًا أو استحضار حالات من بلدان أخرى. فقدعايشنا حدثًا مروعًا مثيلاً. عايشنا مجزرة رابعة المروعة التي يمرّ على ذكراها غدًا 1000 يوم، ولم تجف بعد دماء شهدائها، ولا يزال يقبع خلف أسوار السجون 400 إنسان اعتقلوا في أعقابها. منهم عشرة، أرسلوا لنا رسالة يشكون فيها نسياننا لهم. هؤلاء المعتقلون، لا تزال رابعة حدثًا حاضرًا في حياتهم، لا ماضيًا كما هو الحال لنا.
لا يهمني هنا من تورط في خطاب الكراهية الأعمى، فكلٌّ يعرف نفسه. ناهيك عن محاولة تذكّر أجهزة إعلام الدولة الرسمي التي تبنت الدعاية لمشروع تخليص الوطن من الأشرار.
ولكن يهمني القول هنا أنّ الكلمة في لحظة حدوث المجزرة ليست مجرد كلام، ليست مجرد أصوات وحروف، بل الكلمة في هذه اللحظة هي فعل. الفعل هنا هو الكلمة و هو تحقيق هذه الكلمة كذلك. هو الكلمة الآمرة بالقتل، وهو القتل نفسه.
خطاب الكراهية قد يكون بالوصم، والنبذ، والتشبيه بالحيوانات كما سمعنا من يصم الإخوان ويدعوهم بالخراف، والخراف كما هو عرفنا حيوانات خلقت لتذبح. ليس هذا بدعًا، فقد دُعي الأرمن سابقًا بالخراف، ودُعيت قبائل التوتسي التي قضي عليها في إبادة راوندا بالصراصير . يتشابه الكارهون إذًا.
لا يتوقف خطاب الكراهية عند هذا الحدّ فقط، بل يهدّد وجود المجموعة، أو يحمّلها مسؤولية معضلات، لولا وجودها لما كانت. وتارة أخرى، يحمّلها مسؤولية خنق الآمال، وإجهاض الأحلام التي لولا وجودها، لكانت هذه الأحلام واقعًا متحقّقًا. خطاب الكراهية ليس هو الشتم والسب فقط، بل هو المحاسبة على الوجود ذاته.
يكتب أحدهم موجهًا خطابه لـ “عزيزي الإخواني”:

…وجودك في العالم يسبب خراءً لا نهاية له لكوكب الأرض…وجودك هو السبب في أن بلادي حرمت من الديموقراطية لعقود. وجودك هو السبب في أن هناك إرهابيين في مناطق كثيرة في العالم. وجودك هو السبب في أن سلامًا لا يقوم بين المسلمين والمسيحيين في العالم، لأنّك مازلت تحلم بالفتوحات وسبي نساء الفرنجة وهذا يبرر لهم إستعمارنا وإفقارنا وإضعافنا خوفاً من أن نسبي نساءهم. وجودك هو المبرر الوحيد للأنظمة القمعية، وجودك هو الحاضن لأفكار تعطّل مجتمعاتنا عن التقدم وتسحبنا نحو قاع التاريخ”… (انتهى الاقتباس)
لا يحتاج هذا الاقتباس لتعليق، فالكلام واضح.
ويبدو  أنّ قنوات إعلامية مصرية، أصبح لديها فائض من خطاب الكراهية المختزن في الذاكرة منذ ألف يوم، فوجهته هذه المرة إلى حلب، التي تقصف بالبراميل المتفجرة وسلاح الطيران منذ ما يزيد على أربع سنوات، ويقتل فيها يوميًا العشرات من المدنيين، من ضمنهم أطفال ونساء. تزايدت حدّة القصف والقتل على حلب منذ بداية هذا الشهر، ما أثار موجة عالمية من التضامن والاحتجاج طالبت بالتوقف الفوري للقصف الدموي.
وعوضًا عن أن تنضمّ قناة مصرية مثل الحياة مثلاً لموجة التضامن مع حلب الجريحة، أطلقت على السوريين سموم الحقد والكراهية، واستهزأت بآلامهم وجراحهم ودمائهم عبر برنامج ساخر يدعى “بني آدم شو.” هذه السموم التي أطلقها ممثل البرنامج ليست منفردة، بل جاءت عقب موجة من تعليقات العديد من الإعلاميين المصريين التي تضامنوا فيها مع بشار الأسد القاتل، ضد الشعب السوري المقتول. وخطاب “بني آدم شو” ليس نشازًا كذلك، بل يمثّل التيار العام للإعلام المصري الذي تدرّب سابقًا، في رابعة، على خطاب الكراهية.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>