الطائرة المنكوبة ونكبة الإدارة

مصر العربية. 24 مايو 2016

كارثة جديدة من العيار الثقيل تصيب المصريين! صحونا يوم الخميس الماضي 19 مايو على خبر اختفاء طائرة مصر للطيران (رحلة إم إس 804). بدا الأمر في البداية كواقعة لا يمكن تصديقها، أو كمعلومة يمكن أن يتبين نفيها و تداركها! وقضينا يوم الخميس في حزن و حسرة على احتمالية أن يتحول الركاب الستة والستين إلى ضحايا طائرة متحطمة لعطل فنّي أو لعمل إرهابي.

و فور أن أعلنت شركة مصر للطيران على حسابها على تويتر اختفاء الطائرة، انتشر منشور للمضيفة غادة عبد الله، إحدى مضيفات مصر للطيران  على فيس بوك معرب عن قلقها الشديد بإزاء الطائرة التي وصفتها بأنها “متهالكة وغير آمنة على سلامتنا” (أي سلامة الطاقم والركاب) مضيفة أن الطاقم طالب بتجديدها أو تغييرها أكثر من مرة. اختفى هذا المنشور الآن ولايمكن استعادته سوى من المواقع التي نقلته.

اللافت للنظر، تضارب البيانات الأولى التي أصدرتها مصر للطيران، ما دعا شبكة السي إن إن لكتابة تقرير ترصد فيه هذا التضارب، وهو الذي يمكن ملاحظته من خلال تغريدات مصر للطيران. وكأنّ مثلاً بيانات أولية جدًّا مثل عدد ركاب الطائرة، أو وقت اختفائها، من البيانات التي يمكن الاختلاف بشأنها!

واللافت للنظر أيضًا تضارب بعض البيانات بين مصر للطيران، والقوات المكلفة بتتبع آثار الطائرة. حيث ذكرت مصر للطيران في تغريدة أن أجهزة الطوارئ بالطائرة وجهت نداء استغاثة إلى البحث والإنقاذ التابع للقوات المسلحة، في حين نفى المتحدث الرسمي للجيش وصوا مثل هذه الرسالة.

وفي وقت لاحق في 22 مايو، نقلت جريدة الإندبندت عن قناة (إم 6) الفرنسية أن مكالمة لعدة دقائق استمرت بين قائد الطائرة وجهاز التحكم بالملاح الجوية وهو الذي كانت السلطات المصرية نفيه.

وفي يوم الخميس نفسه، بدأت التخمينات تتوالى من الجانب المصري عن أسباب هذا الحادث المروع الفظيع. وكانت بالإضافة لكونها مجرد تخمينات ولا تستند لأي حقائق، تنحو نحو فرضية المؤثر الخارجي أكثر من فرضية وجود  خلل فني داخلي. كما قال وزير الطيران “فيه فرضيات شكلها جميل  أوي بتقول إنّ الحادث حادث إرهابي…وفيه فرضيات شكلها مش جميل بتقول إن الموضوع موضوع فنّي….”

“شكلها جميل أوي” لأن فرضية العمل الإرهابي هي فرضية مسيسة، يمكن تحقيق مكاسب من ورائها وتوظيفها في إطار أنّنا في خطر خارجي وأمننا القومي مهدد وبلدنا مستهدفة. بالإضافة أن فرضية المؤثر الخارجي كسبب عمومًا، ترفع عبء المسؤولية الثقيل عن كاهلنا، وتريح ضميرنا الذي من الممكن أن يرهق أو يشعر بالذنب حيال التقصير والتفريط الشديد في الأخذ بالأسباب، والاحتياطات، لمنع وقوع الكوارث.

في الواقع، فإنّ حادث الطائرة لا يكشف طريقة تعاملنا غير الجدية مع تحديات مخاطر الطيران فقط، بل يكشف طريقة تعاملنا مع احتمالات المخاطر عمومًا، ومع توقع حدوثها. تميل ذهنيتنا وثقافتنا المصرية عادةً إلى الشعور بأنّ “الأمور عندما تمشي تمام” فإنّ هذا من “ستر ربنا” أمّا إذا وقعت مصائب، فهي من قضاء الله وقدره. يجب على المؤمن حينها أن يسلّم بالمكتوب، فهل يمكن أن “يموت إنسان ناقص عمر”؟

سيتهمني بعض القراء فور قراءتهم لهذه السطور في إيماني بقضاء الله وقدره، وكأنّ ضحايا الطائرة المنكوبة كان من الممكن أن يعيشوا مثلاً في حين أنّ أعمارهم انتهت بالقضاء الإلهي! ولكنهم يتناسون ردّ عمر بن الخطاب على هذه الشبهة، حين قال له أحدهم، حين نصح أناسًا بعدم دخول قرية انتشر فيها الطاعون: “أنفرّ من قدر الله يا عمر” فردّ “بل نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.” والمعروف أنّ مرض الطاعون مرض يؤدي إلى الموت، وكأنّ الفرار منه يعني الفرار من عمرك الذي أراد الله انتهائه.

وكأنّ تنفيذ تعليمات السلامة “بحذافيرها” مثل تغيير أو تجديد طائرات قديمة أو التعامل الجدّي الفوري السريع والجهورزية الكاملة للاستجابة لرسالة استغاثة، قد لا تتكرر إلاّ كل بضع سنوات، من أجل منع هذه الكوارث، يعني محاولة الهروب من قدر الله مثلما قيل لابن الخطّاب.

هذه الحوادث ليست نادرة كما يتداول، بل متكررة الحدوث، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار وسائل النقل الأخرى مثل السفن والقطارات, بعضها بخسائر بشرية وبعضها بدون. لا أظن أن نسبة التكرار طبيعية؛ بل تعكس فشل في الإدارة مبناه الأساسي على الاستهانة بتعليمات الأمن والسلامة، التي تتطلب جهدًا كبيرًا في التنفيذ لتفادي وقوع حوادث، احتماليتها ضعيفة بالفعل، ولكنها كارثية.

– في 3 مايو 2016، حدث حريق الرويعي في منطقة العتبة، تلاه حريق في منطقة الغورية . حرائق مايو في العتبة أدّت لخسائر بالملايين.

– في 26 إبريل 2015، حدث حادث تصادم لقطارين في الخط الثالث الجديد بمحطة العباسية.

– في 29 يوليو 2011، احترقت الطائرة (بي 772) رحلة (إم إس 667) التي كانت متجهة إلى جدّة، حين كان الركاب على وشك الصعود. ولم تحدث وفيات.

– في 3 فبراير 2006، غرقت عبّارة السلام التي كانت تقل حوالي 1415 راكب.

هذه كانت مجرد أمثلة للنتائج الكارثية لإهمال إجراءات الأمن والسلامة. ولكن زيارة واحدة لمحطة مصر برمسيس تكفي للتأكد من تهالك القطارات البالية، وزيارة واحدة للخطوط الثلاثة لمترو الأنفاق كافي لنرى الفرق بين المترو الأول والثالث، ولنرى المصير الذي ينتظر الخطّ الثالث بعد 20 سنة استهلاك مثلاً. الأتوبيسات العامّة كانت في حالة تهالك تامّ، ولم تكن لتجدد سوى بمنحة من الإمارات.

إنّ التعامل مع مثل هذه الحوادث يستلزم منّا إعادة تأسيس ثقافتنا في التعامل مع “الخطر المحتمل الغيبي”. هذه الثقافة المتواكلة، التي تتسرب إلى أسلوب إدارة الدولة وإدارة التكنولوجيا وإدار ة وسائل النقل المتوحشة التي يمكن أن تودي بحياة عشرات الأشخاص دفعة واحدة بسبب عطل فنّي بشري مهمل.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>