التغريبة السورية

نشر سابقًا في مصر العربية. 26 يوليو 2016

في ديسمبر 2011 قابلت الشاب ناصر السوري، ذي العشرين ربيعًا صدفةً في ميدان التحرير. كان ناصر قادمًا من حمص، التي كانت من أوائل المدن السورية الثورية. وقد دفعته أمّه دفعًا للخروج من سورية خوفًا عليه من تنكيل النظام السوري، بعد أن حالفه الحظ، فأفرج عنه النظام مع رفاقه المتظاهرين بعداعتقال مؤقت دام عدّة أيام. في ذلك الوقت، كان قدوم السوريين إلى مصر في ازدياد، وكانوا يتعاملون أنّ الأمر مؤقت، وأنّ العودة قريبة.
كان ناصر لا يزال مفعمًا بالأمل. كان حديثه أنّ النظام السوري على وشك السقوط! “سيسقط في خلال عدّة أشهر على الأكثر!” هكذا قال لي ناصر بثقة مطلقة. كنت متشكّكة في إمكانية العودة، فالشواهد التاريخية تدلّل أنّ التغريبة إذا بدأت، فلن يعود المتغربون للوطن! هكذا كانت التغريبة الفلسطينية، وهكذا كانت تغريبة بني هلال في التراث الشعبي! وهكذا كانت كل تغريبة أخرى.
بل كنت متشكّكة في مقولة أنّ الأسد سيسقط من الأساس! إذ إنّ تعامل النظام السوري مع المتظاهرين المطالبين بإسقاطه ومع عموم الشعب السوري المسالم كانت دالّة أنّ النظام كانت لديه استراتيجية وخطّة مسبقة وممنهجة لسحق أي تمرّد، ولو كانت تكلفته اجتثاث الأغلبية السنية، وتدمير سورية بالكامل. وهو ما نشاهده ونراقبه كل يوم في سورية الحبيبة. في بداية الثورة، فرّغت حمص من أهلها، حتّى أخرج منها آخر من بقي فيها في مايو 2014. و حتّى هذه اللحظة، يقصف الطيران الروسي والسوري كل يوم غوطتا دمشق الشرقية والغربية، وإدلب وحلب. والهدف هو تفريغ هذه المناطق من مواطنيها تمامًا لتخلو الأرض لمستوطنين جدد في المستقبل بعد انتهاء الحرب.
بدأت التغربية السورية في ذات العام الذي اندلعت فيه الثورة، ولا تزال التغريبة في ازدياد. في كل يوم، قصف، ثم نزوح، ثمّ لجوء، وانتهاء ببحث عن مقام آمن.
في مدينة بون الألمانية، في يونيو المنصرم، قابلت “محمد” السوري الذي ابتعت منه ساندويتش فلافل، وحين علم أني من مصر، سألني “من أين؟ أعرف القاهرة جيدًا فقد عشت فيها عشرة أشهر.” خرج محمد من القاهرة إثر موجة الكراهية ضدّ السوريين في صيف 2013،  متوجهًا إلى تركيا، حتى استقر به المقام في ألمانيا. الآن يدرس محمد الألمانية ويعمل في مطعم سوري. يقول لي: “خلَص، خلّصنا من البلاد العربية.”
فريد، لاجئ آخر من أكراد سوريا، من حلب. حين أخبرني فريد بقصته وأنّه خرج من حلب في 2012، تعجبت، ففي ذلك العام، لم يكن القصف قد اشتدّ بعد على حلب. ولكنّه اشتكى من اعتداءات من “هؤلاء اللي بسمّوا نفسهم جيش حرّ!” باع فريد سيارته، واستخدم ثمنها في السفر  لتركيا وبقي فيها حتّى 2015، حين قرر المخاطرة، فأخذ زوجته وأولاده الثلاثة وركب “البلم” وهو المركب الذي يستخدمه المهربون لتهريب اللاجئين إلى أوروبّا. وصل فريد وأسرته إلى مخيم “إيرفورت” في ألمانيا الذي بقيت فيه الأسرة عشرة أشهر حتّى استوفت إجراءات الإقامة، ثم هو الآن في مدينة “كونجزوينتر” القريبة من بون، وأولاده في المدارس الحكومية الألمانية.
لا يوجد ما يدلّ أن محمد وفريد وأسرهما سيعودون يومًا للوطن. لا يملك فريد أي وثيقة تدلّ على ملكيته لبيته الذي تركه في حلب. بل، ولا يعلم عن مصيره شيئًا. وفي سنوات قلائل، سيتقن الأولاد الألمانية وسيندمجون في المجتمع الألماني، ولن تكون العودة خيارًا عمليًّا.
ولكن هذا ليس خيار المتغربين السوريين في تركيا، وفي مصر، وفي بلاد أخرى لا توفر استقرارًا مثل ألمانيا والسويد وكندا. فهل ستكون العودة خيارًا متاحًا بالفعل لهؤلاء، بعد أن دمّر الأسد المدن السورية العريقة فوق ساكنيها، وبعد ما أصبحت أملاك السوريين النازحين رمادًا تذروه الرياح؟ أم سيعطى السوريّون في المستقبل “حق العودة” فقط دون أن يعودوا، على غرار حق العودة الذي منح لجيرانهم الفلسطينيين في تغريبتهم في القرن العشرين؟

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>