الاختبار السوري لمفهوم الأمّة

نشر سابقًا في مصر العربية. 28 يونيو 2016

تسود قناعة عامّة أنّ المسلمين أمّة واحدة، وأنّ هذه الأمة قد وُحّدت برباط الدين، من جاكرتا إلى الرباط. كما تسود القناعة أنّه رغمًا عن الحدود السياسية التي تفصل بين أقطار هذه الأمة الواحدة، إلاّ أنّها ستظلّ أمّة واحدة من دون النّاس، يربطها دين واحد، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة.

هذا المفهوم الذي يتسامى فوق قواسم المذاهب يحتلّ ذهن كل المنتمين للتيارات الإسلامية، وكثيرًا من المسلمين غير المؤدلجين. لهذا فهم على قناعة أنّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم، سيظلون أمّة واحدة.

وعندما نُقل إلينا مفهوم “الأمّة” الغربي nation سارعنا إلى تبنيه مباشرة، لكن بعد تعديله فورًا. أي أن تحلّ الرابطة العقديّة، محل الرابطة القومية. وبالتالي يصبح لدينا مفهوم أمّة إسلامي.

سارع متبنّو المنظور الإسلامي في العلوم الاجتماعية إلى تبنّي مفهوم الأمة ذي الرابطة العقدية، محلّ مفهوم الأمّة ذي الرابطة القومية. تبنّوه نظريًّا دون أن يعلمونا على وجه التحديد ما تجلياته الواقعية التي يجب أن تعمّ المسلمين جميعهم بالضرورة؟ بل إنّهم لم يجيبوا إن كان هذا المفهوم موجود في التاريخ أم في الخيال؟

لقد ساعدتني دراسة التاريخ الإسلامي على الشك في صحة مقولة وجود “الأمة الإسلاميةالواحدة” في الواقع الحاضر، بل إنّني شكّكت في وجودها في التاريخ نفسه. وحين قرأت كتاب “الأمّة القطب” للدكتورة الراحلة منى أبو الفضل (ت 2008)، والتي تتبنى المنظور الإسلامي الحضاري في دراسة العلوم السياسية، سارعت بسؤال مؤلفته، وكان ذلك في عام 2007: ” هل مفهوم الأمّة تأمّلي/فلسفي/ افتراضي أم هو تاريخي؟ أي وُجد في التاريخ ثم تراجع نتيجة فترة الاستعمار الأوروبي ثم فرضها لاتفاقية سايكس بيكو؟ هل المفهوم يعيش في واقعنا أو حتّى ظلاله؟   فأجابت أنّه كان موجودًا في التاريخ!!

في الحقيقة، لقد كانت تمثلات مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة في التاريخ ضعيفة. كان التفتت وقيام الولايات المستقلة عن الخلافة الأم سمة غالبة في التاريخ الإسلامي. وكان ذلك لا يحدث سوى  بعد حروب طاحنة بين أطراف مسلمة، تنزف فيها الكثير من الدماء.

في اللحظة الراهنة، ومنذ خمس سنوات، يتعرض مفهوم الأمة لاختبار عنيف تحت وقع “الكارثة السورية.” وتحديدًا في 5 يونيو 2013 حين سقطت مدينة القصير في يد حزب الله، بدأت أتأمّل في حقيقة وجود المفهوم واقعيًا. هل يمكن الحديث عن أمّة إسلامية حين نعيش عيانًا قتل مسلم شيعي لمسلم عربي سنّي والعكس، لم يفصلهما سوى رابطة المذهب التي ادّعينا أنّ رابطة الدين تذيبها؟ لقد كشفت الثورة السورية الكارثة الأعمق، وهي تهافت هذا المفهوم واقعيًّا، وتسيّد المصالح القومية والإقليمية، بل والتحالفات المذهبية التاريخية عليه.

وحين لجأ كثير من السوريين إلى ماليزيا ذات الأغلبية المسلمة بعد اندلاع الحرب، لم يشفع للسوريين أنّهم مسلمون _أي تجمعهم مع الماليزيين الرابطة العقدية التي ينبني عليها مفهوم الأمّة_ وبقي جهد الإغاثة والعون ملقى على الجمعيات الخيرية في ماليزيا التي حاولت مساعدتهم قدر استطاعتها. وكان السبب في عدم استقبال السوريين هو أنّ ماليزيا لم توقع على اتفاقية اللاجئين الدولية.

ويبدو أن القتل المستمر اليومي للسوريين، و تهجيرهم من موطنهم بات أمرًا لا يثير حتّى اهتمام “المسلمين” للمتابعة، فضلاً عن المناصرة أو الانتفاض مطالبة بوقف الخطة الأسدية-الإيرانية-الروسية لترحيل الشعب السوري من أرضه.

وأعود فأسأل هل مفهوم الأمة مؤثر في العلاقات الدولية بين الدول التي تدّعي أنّ دينها أو دين غالبيتها هو الإسلام؟ يبدو أن الأزمة السورية لن تفرض فقط واقعًا جديدًا في خريطة الإقليم، بل ستفرض مراجعات نظرية وتاريخية لمفهوم الأمة.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>