سريبرينيتسا.. واحد وعشرون عامًا من الإنكار

نشر سابقًا في مصر العربية. 14 يوليو 2016

في يوم الاثنين الماضي 11 يوليو، مرّ على مجزرة سريبرينيتسا واحد وعشرون عامًا. في مثل هذا الوقت في عام 1995، في أعقاب الحرب التي ضربت يوغوسلافيا وأنهت اتحادّها، كانت الحرب الأهلية تهدّد حياة المدنيين، الذين نزحوا من مناطق الحرب المشتعلة إلى مناطق ظنّوها أكثر أمانًا. وكان من هذه المناطق، مدينة سريبرينيتسا البوسنوية التي أعلنتها الأمم المتحدّة منطقة آمنة، فنزح إليها أكثر من ثمانية آلاف أسرة من مسلمي البوسنة الفارين من جحيم الحرب.

في ذاك الصيف، وحين كانت القوات الهولندية شبه مجرّدة من سلاحها، وحين كان هؤلاء المدنيون العزّل من أهالي سريبرينيتسا، ومن الأهالي النازحين مجردين من سلاحهم، اعتدى الصرب على المسلمين المدنيين العزّل في بدايات يوليو 1995، ولكن القوات الهولندية لم تحرك ساكنًا. احتمت الأسر المسلمة بقاعدة القوات الهولندية لحفظ السلام، التي طردتهم خارج القاعدة، لتتركهم فريسة سهلة في أيدي قوات الصرب المدججة بالسلاح، والتي قتلتهم قتلاً منظمًا على مدار ثلاثة أيام. يقول حسن حاسانوفيتش، أحد الناجين من المجزرة، حاكيًا قصته: “استطاع 5-6 آلاف الدخول إلى مخيم الأمم المتحدة. ثمّ حدثت لحظة حاسمةطرد الهولنديون الناس من المخيم !! وتركوهم للصرب، الذين فصلوا النساء والأطفال عن الرجال والصبيان، ثم تركوا النساء واقتادوا الرجال إلى الجبال وقتلوهم. كان أخي وأبي من المطرودين، أمّا أنا فقد احتفظوا بي داخل القاعدة لأقوم بمهام الترجمة. وهكذا نجوت أنا وقتلت عائلتي!”

انتهت المجزرة بقتل 8372 رجل وصبي، في حين أبقى الصرب على النساء و الأطفال الإناث والذكور تحت سنّ الثانية عشرة. ولم ينج من هذه المجزرة سوى عشرة رجال فقط، منهم حسن حاسانوفيتش، الذي ذكرنا شهادته.

اعترفت الأمم المتحدة بمجزرة سريبرينيتسا بكونها جريمة “جينوسيد” والتي تعني حسب تعريف ميثاق الأمم المتحدة أنّها التدمير المتعمد لجماعة دينية أو إثنية أو عرقية أو قومية كليّا أو جزئيا.” تلا ذلك، إنشاء مركز بوتوتشاري لضحايا سريبرينيتسا والذي افتتحه الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون عام 2003، ليقوم بمهام الكشف عن المقابر الجماعية التي دفن فيها الضحايا، ثم إجراء تحاليل DNA  وغيرها من الفحوص للكشف عن هوية رفات الضحايا وتكريمهم بإعادة دفنهم في مقابر  فردية. ومنذ ذلك الحين، يتم التعرف على عدد من الجثامين الجديدة كل عام، ودفنهم في 11 يوليو بعد الصلاة عليهم في إحياء جماعي لذكراهم. في هذا العام، ووري الثرى رفات 127 رجل وصبي بعد التعرف والصلاة عليهم.

وعلى رغم اعتراف الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي عمومًا بالجينوسيد إلاّ أنّ صرب البوسنة، الذين ارتكبوا المجزرة، والذين حصلوا على حكم ذاتي تحت اسم “جمهورية سربسكا” لا يزالون ينكرون المجزرة، ويرفضون تسميتها بالجينوسيد. حيث صرّح رئيس جمهورية سربسكا، بأن سريبرينيتسا جينويسد هي أكبر  “خدعة” في القرن العشرين.

إنكار الجريمة ليس إنكارًا على مستوى الحكومة فقط، وإنّما إنكار على مستوى المجتمع كذلك. حين شاركت في إحياء ذكرى سريبرينيتسا في يوليو 2013، تعمّدت المشي في أنحاء بيوت بوتوتشاري، وفي هذه التمشية القصيرة لم يكن من الصعب عليّ مطلقًا تحديد بيوت الصرب من بيوت المسلمين، وإدراك أنّ الاثنين ليسا على وفاق. بل إنّ كثيرًا من صبيان الصرب الصغار كانوا يزعقون فيّ حين يرونني بغطاء الرأس الذي يدلّ على هويتي المسلمة. بل إنّ هؤلاء الجيران يتجاهلون تمامًا ذكرى الإحياء السنوية الكبيرة التي تقام بجانب بيوتهم في 11 يوليو  من كلّ عام، التي يحج إلها الآلاف من المتضامنين والمتعاطفين، بالإضافة لأهالي الضحايا أنفسهم. إن التعايش في هذه الحالة هو تعايش فيزيائي فقط، وليس مصالحة.

وفي ظلّ الإنكار، تبدو المصالحة بعيدة المنال، فإن كان الجرم منكرًا من الأساس، فكيف يمكن تصور اعتراف واعتذار و إقامة للعدل، وتعويضات لذوي الضحايا. ومن ثمّ المصالحة وتحقيق السلام؟ ظاهرة الإنكار لا يختص بها صرب البوسنة فقط، وإنّما هي ظاهرة متكررة، في معظم جرائم القتل الجماعية التي تنال اعتراف الأمم المتحدة بكونها جرائم جينوسيد، يحاكم مرتكبوها محاكمة دولية. وهروبًا من هذا، يعمل الإنكار إذاً على محو الجريمة من الذاكرة، ورفع المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن كاهل جماعة كاملة عملت على محو وجود جماعة أخرى من الوجود.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>