الانقلاب الفاشل والجماعة المتهمة

نشر سابقًا في مصر العربية. 19 يوليو 2016

بدا الانقلاب الفاشل في تركيا كاشفًا عن عمق الصراع السياسي الداخلي، بدرجة أكثر كثيرًا من كشفه عن تشابك العلاقات التركية الإقليمية وربما الدولية.
كانت مدة الانقلاب الفاشل ثلاث ساعات و ست وعشرون دقيقة، امتدت من الجمعة 15 يوليو  11:25 ليلاً وحتى السبت 16 يوليو 02:51 صباحًا حين خرج رئيس الوزراء علي يلدريم، ليعلن رسميًّا فشل الانقلاب.
وعلى رغم قصر المدة وصدمة الحدث، فإنّ أصابع الاتهام وُجهت مباشرة لفتح الله جولن زعيم حركة الخدمة التركية الصوفية، والمقيم في منفاه الاختياري في بنسلفانيا بالولايات المتحدة. سارع جولن بنفي صلته بالانقلاب، بل وإدانته له.
هذا التصريح لزعيم الحركة، يبدو أقرب إلى التكذيب منه إلى التصديق. إذ يشير ظاهر الحدث إلى أنّ احتمالية علاقة فتح الله جولن وحركة الخدمة بمحاولة الانقلاب الفاشلة، احتمالية ليست بعيدة عن التصديق.
فمن ناحية، سارع أردوغان بنفسه إلى اتهام فتح الله جولن، حليف الأمس وعدو اليوم، بضلوعه في محاولة الانقلاب، بل ومطالبة الولايات المتحدة بتسليمه. في حين سلمت الكتل العلمانية بأنواعها، والتي تبغض أردوغان كما هو شائع، من أصابع الاتهام في الساعات الباكرة من الحركة الانقلابية، وقبل أن يعلن رئيس البرلمان فشل الانقلاب رسمياً يوم السبت.
ومن ناحية أخرى، فإنّ تحرك وحدات من الجيش في محاولة انقلابية كان خارجًا عن سلسلة الأوامر التي تسري من أعلى إلى أسفل في المؤسسة العسكرية، وبدا مصدر الأوامر مجهولاً، إذ لم يصدر من قيادة عليا. أي أنّ من قام بالانقلاب هم من الرتب المتوسطة والصغيرة والتي خرجت عن قياداتها العليا، ولم تتلق منها أية أوامر.
وهذه الظاهرة تدعم المعلومات الشائعة أن حركة فتح الله جولن تسعى للتمدد في كافّة أجهزة الدولة السيادية، وعلى رأسها مؤسسة الجيش. ومن الطبيعي أن تغلغل حركة خارجية بسرية في مستوى الرتب الصغرى والمتوسطة، في مؤسسة مثل الجيش أسهل من محاولة التغلغل على مستوى القيادات العليا. فالأصغر رتبةً وسنًّا أقرب للتمرد، وأكثر طموحًا، في حين قد يقل هذا مع رتبة أكبر قد تكون عاصرت وشهدت انقلاب 1997 والذي كان رابع انقلاب تشهده تركيا في القرن العشرين.
كما أنّ موجة من الاعتقالات شملت أفرادًا من القضاء، وموجة أخرى من العزل شملت أفرادًا من الشرطة والبيروقراطيين. امتداد الاعتقالات والعزل لأجهزة القضاء والشرطة والحكومة يدعم فكرة أن الأطروحة التي يبني عليها أردوغان ردّة فعله وقرارته هي أطروة تغلغل حركة فتح الله جولن في المؤسسات السيادية، وليس مجرد الاشتباه.
ونتبين من ظاهر الأحداث كذلك، أنّ من نزلوا للشوارع من الناس واستجابوا لنداء أردوغان عبر فيس تايم، وندائه الثاني عبر الهواء مباشرة، لم يكونوا في الحقيقة، شريحة ممثلة لجميع أطياف الشعب، بل كانوا من عموم أنصار أردوغان ومحبيه والذين لا يتعدون نصف الشعب التركي كما تشير لذلك النسب الانتخابية. هذا في حين، على ما يبدو، اكتفى عموم الناس الذين يصنفون أنفسهم علمانيين ومنتقدين، لأردوغان وربما كارهين له، بالبقاء في المنازل، والاكتفاء بالشجب ومعارضة الانقلاب، الذي لم تحركه قوى شبيهة بهم، بل قوى إسلامية أخرى مخالفة لحزب العدالة والتنمية. ولكنها تظل مصنفة بأنّها إسلامية. في هذه الحالة، يبدو أن تحالف الانقلاب كان قائمًا على قوتين فقط: العسكرية من ناحية والإسلامية الصوفية من ناحية أخرى. التحالف هنا ثنائي إذًا وواضح، ولا يشمل القوى العلمانية أو غير الإسلامية.
تبدو مقولة الانحياز للديمقراطية بوصفها مثال وقيمة ومبدأ مقولة رائقة للكثيرين لتفسير مشهد عدم انحياز القوى العلمانية للعسكر في محاولة انقلابهم الفاشلة، والتي تحسب لهم بطبيعة الحال. و لكنّي أضيف هنا سببًا آخر، وهو أنّ هذه القوى خارج اللعبة أصلاً. ومن المعروف أن الانقلابات تعتمد على التخطيط الطويل، والتنفيذ السريع المباغت. فإن لم تكن محسوبًا في الخطّة، وحاضرًا منذ البداية، فلن تكون موجودًا في التنفيذ السريع بطبيعة الحال.
بناء على ما سبق، وفي تصوري، فإنّ منهج التعاطي مع الانقلابيين، ومستوى العقوبات الواقعة عليهم، سيكون فيصلاً في تحديد مصير حركة فتح الله جولن في المستقبل في الداخل التركي، وطبيعة العلاقة العدائية بين حركة الخدمة وبين حزب العدالة والتنمية. وبالتالي، قد لا يكون منهج التعاطي هذا مؤثرًا كثيرًا في مستقبل العلاقات بين مكونات الشعب الأخرى كالعلمانيين والأكراد، كونهم خارج اللعبة من البداية. والله أعلم.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>