لماذا تطول مدة الحبس الاحتياطي؟

نشر سابقًا في مصر العربية. 22 نوفمبر 2016.

حين سألتني إحدى صديقاتي الصيفَ الماضي عمّا أتوقعه بشأن مسار قضية إسماعيل، أخبرتها أنّ استمرار الحبس هو المتوقع. ليس بسبب شيء سوى أنّي لا أرى الاحترافية الكافية في عمل الدفاع والمحاماة التي تعجّل بإخلاء سبيله.

ونظرًا لأنّ الجهاز البيروقراطي هو الحاكم، و هو جهاز عتيد وعريق لديه من الخبرة التاريخية المتراكمة التي تعطيه الفرصة ألاّ يترك صغيرة ولا كبيرة يمكن من خلالها للمتهم أن ينفذ من أسره، إلاّ واحتاط لها فإنّه في الأغلب هو الذي سينتصر.

سيستمر الحبس إذن حتى تتوقف الماكينة البيروقراطية الخالية من الإحساس بالزمن ومن الإحساس بالإنسانية عن العمل من تلقاء نفسها إذ لا يوجد من يوقفها عن الدوران في أقرب فرصة ممكنة.

وضربت لصديقتي طبيبة الأطفال مثالاً. فقلت إذا أردتِ مثلاً مكافحة مرضٍ ما وإنهاء وجوده، فعليكِ بالتالي أن تدرسيه دراسة دقيقة، حتى تستطيعي فهم أسبابه على مستوى “الميكرو”، وبالتالي تقدمي الحلول الناجعة، والوقائية كذلك. ولكن، هناك اقتراب آخر، فيمكن أن تختاري مثلاً ترك هذه الدراسة جانبًا، وتقرّري أن تستخدمي الدواء المتوفر بالفعل والذي قد لا يكون ناجحًا جدًا، ولكنك استعضتِ عن ذلك، بإنشاء جمعية مثلاً لمكافحة هذا المرض، وأطلقت حملة كبيرة استخدمت فيها وسائل إعلامية وتواصلية كبيرة للتوعية بهذا المرض. وبجانب ذلك فقد لمع اسمك باعتبارك مكافحة كبيرة لهذا المرض، كما أنّ كثيرًا من زملائك قد التحقوا بكِ، وأصبحوا يشاركونك هه الحملات، فيلقون عينًا على المرضىى وعينًا أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي لينشروا صورة أو منشورًا عن آخر مريض عالجوه، فينالهم حظّ كذلك من البروز والظهور. بالتأكيد هذه الحملات ذات نفع ومردود، ولكن يجب أن نقرّر أنّها ليست بحالٍ واجبَ الطبيب، ولا يجب أن تكون شغله الأول.

كذلك الحال في المحاماة والدفاع، فالحملات الإعلامية المدافعة عن المعتقلين السياسيّين ليست من اختصاص المحامي، حتّى وإن كانت نافعة وذات مردود، ولا يجب أن تكون شغلَه الأوّل. بل العمل الأول للمحامي يجب أن يكون الدراسة الدقيقة لفنيات القانون واكتساب الخبرة العملية الشاملة بالدفاع وبطرق التعامل مع القضاة، بل وفهم شخصياتهم ومداخلهم، وطرق مخاطبتهم.

لن يبدو كلامي هذا مريحًا لكثيرين.

 في السنوات الثلاثة الأخيرة، حُبس كثير من المعتقلين السياسيين بناءً على قانون الحبس الاحتياطي، وهو الذي تنظمه المواد من 134 إلى 143 من قانون الإجراءات الجنائية. وبناء على المادة 143 فإنّ مدة الحبس الاحتياطي يجب ألاّ تتجاوز ستة أشهر  في حالة الجنح، أو ثمانية عشر شهرًا في حال الجنايات، أو سنتين إذا كانت العقوبة المقرّرة هي السجن المؤبّد أو الإعدام. وفي هذه الحالة الأخيرة، فإنّ من حق محكمة الإحالة ومحكمة النقض أن تأمر بالحبس مدة 45 يوم قابلة للتجديد دون أن تتقيد بالمدد المذكورة السابقة. وذلك بناء على التعديل الذي أصدره عدلي منصور في 23 سبتمبر 2013.

 إذًا فالماكينة البيروقراطية القضائية تتوقف تلقائيًّا عند ثمانية عشر شهرًا في معظم قضايا المعتقلين السياسيين، و هي القضايا التي لا تصل فيها العقوبة إلى المؤبّد أو الإعدام. وذلك إذا لم تُحل هذه القضايا إلى المحكمة، ويصدر فيها حكم عقابي بالفعل.

 ما دور الدفاع والمحاماة إذًا إذا انتظرَ المحامون انتهاء هذه المدد التي ينصّ عليها قانون الحبس الاحتياطي، وبالتالي يُفرج عن المتهمين بمرافعة بسيطة يُلفتُ فيها المحامي نظرَ القاضيَ أنّ المدّة المقرّرة للحبس الاحتياطي قد انتهت؟

 في كثيرٍ من القضايا السياسيّة، أُفرج فيها عن المتهمين نتيجة انتهاء مدّة الحبس الاحتياطي بالفعل، سواء كانت الستّة أشهر أو الثمانية عشرَ شهرًا أو السنتين. ومنها القضايا التي يمكن أن تُوصِل الاتهامات فيها إلى الحكم بالإعدام أو السجن المؤبّد. وبالتالي يكون المتّهم قد قضى فترة عقوبة “على سبيل الاحتياط” أي في سبيل “تحقيق” لم يتمّ غالبا لسببٍ أو لآخر. لا يمكن الادّعاء بأنّ انتظار الإفراج التلقائي يعدّ نجاحًا “حقوقيًّا” بأيّ حال من الأحوال.

 ومن ناحية أخرى، فإنّ بعض المدافعين والناشطين يميلون للقول بأنّ بعضَ القضايا “ذاتَ طابع سياسيّ” ويميلون لتصور أن محاكماتها وكأنّها تتم “خارج القانون” وبالتالي فالدفاع في الحقيقة لا دور له، سوى تسجيل الحضور في جلسات النظر في أمر الحبس.

 في الحقيقة هذا تصور عارٍ عن الصحّة. فالقضايا ذات الطابع السياسي هذه هي قضايا سياسية بالفعل، ومحاكماتها تخضع لقانون العقوبات المصري، وتحديدًا باب “الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل”.. وبالتالي فالمحاكمات السياسيّة تتمّ في إطار القانون، وليس خارجه. فالمحاماة والدفاع أمر ممكن، ومطلوب ومؤثر.

 يتذرع بعض المدافعين والناشطين بحجج أخرى لتقليل تأثير الدفاع مثل تصور أنّه دائمًا ما يكون هناك “تعليمات عليا” بشأن تجديد حبس معتقل سياسي ما أو الإفراج عنه. لا أدري في الحقيقة ما مصدر هذه التعليمات العليا تحديدًا. والأعجب لماذا الإصرار على وجود مصدر “تعليمات عليا” إذا كانت البيروقراطية الشُرَطيّة والقضائية فيها ما يكفي لضمان استمرار حبس أي معتقل على سبيل “الاحتياط” حتّى يستنفد مدّته. بل ويتصورون كذلك أنّ هناك شخصًا ما ذا رتبة ومصلحة في تكدير معتقل ما، وأنهم يهدفون إلى تضييع أعمارنا واستنزاف مواردنا. نعم، إن أوقاتنا تُهدر وأموالنا تنفد، ولكن ليس بسبب أشخاص محددين لا نعلم من هم، بل لأن الماكينة البيروقراطية منزوعة الإحساس، سواء الإحساس بالزمن أو بالإنسانية، كما أنّها لن تتوقف من تلقاء نفسها سوى بأن تصل إلى منتهاها، بل قد تجاوزه إذا لم يوقفها أحد. وهذا “الأحد” لابدّ أن يكون هو المحامي المنوط به الدفاع عن السجين السياسي.

 حجةٌ أخرى تُذكر في سبيل تسويغ “قلة حيلة” محامي المعتقلين السياسيّين وهو أنّ قرارات تجديد الحبس وقرارات إخلاء السبيل تأتي بحسب رغبة القاضي الناظر في أمر تجديد الحبس. وهو أمر ليس بالخطأ تمامًا، ولكن في هذه الحالة فالدفاع، وبراعة المحامي في المرافعة تزيد من فرص التأثير ولا تقلله. مثال ذلك، القاضي شعبان الشامي في الدائرة 15 شمال القاهرة جنايات قرر في 20 نوفمبر الذي أمر بإخلاء سبيل جميع القضايا المنظورة أمامه فيما عدا قضية واحدة.

 لعب الدفاع دورًا مهمًا في هذا اليوم الذي بدأ بجلسة الصحفي إسماعيل الإسكندراني الذي مر على اعتقاله عام كامل وهو تقريبًا ثلثي الحد الأقصى  للحبس الاحتياطي المقرر له. ترافع عن إسماعيل ثلاثة محامين استطاعوا إقناع القاضي بانتفاء مسوغات الحبس الاحتياطي. تلى ذلك القضايا الأخرى الذي نالت الحظ نفسه فيما عدا قضية واحدة.

 في الحقيقة، فإنّ التقليل من دور وتأثير الدفاع عن المعتقلين السياسيّين، وتصور أنّ علينا الانتظار لأبانا الذي في الأعالي ليصدر تعليمات بإخلاء سبيل هذا المعتقل السياسي أو ذاك يظهرُ الدولةَ بأنها الحاكم المطلق الذي لا يمكن منازعته، ولا يمكن الجدال معه، بل علينا الانتظار حتى تعطينا مرسومات عفو كما أصدرت بحقنا قرارت اعتقال في المقام الأول.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>