نظرية تعويم العملة: هل تنجح في مصر؟

نشر سابقًا في مصر العربية. الثلاثاء 8 نوفمبر 2016.

كغيري من عموم المصريين، أتابعُ الأخبار الاقتصادية بالغة السوء في الأشهر الماضية بكثير من القلق؛ بل وألمس أثرها البالغ في تفاصيل الحياة اليومية، وتعاني محفظةُ نقودي من تبعاتها الموجعة.

في شهر يوليو الماضي، رُفع بعضُ الدعم عن الوقود والطاقة، لترتفع فواتير الكهرباء والغاز؛ وهو القرار الذي أتى في إطار خطّة الرفع التام لدعم الطاقة ففي خلال سنواتٍ ثلاث، وكانت هذه السنة هي السنة الثانية في الخطة. ثمّ ساد الترقّب جرّاء إضافة ضريبة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وهي ضريبة القيمة المضافة التي طُبقت في بداية شهر أكتوبر، والتي تبلغ 13% على بعض السلع مثل الملابس، و على بعض الخدمات، مثل بطاقات شحن الهواتف المحمولة. ولم يكد يمرّ شهر واحد، حتى وقعت على عموم المصريين طامّتان في يوم واحد، هما قرار “تعويم الجنيه” وقرار الرفع الكامل لدعم الطاقة، والذي كان مقررًا أن يكون في شهر يوليو القادم، ضمن الخطة الثلاثية، ولكنّ الحكومة استعجلت القرار، لتجعل همّ المصريين همّين.

المشكلة إذاً ليست فقط في “تعويم الجنيه” لكن في أنّ أربعة قرارات مختلفة أدّت إلى زيادة الأسعار زيادة مضاعفة، اتُخِذت كلّها في خلال أربعة شهور فقط.

زادت تكلفة المعيشة اليومية على معظم شرائح المجتمع المصري، والتي تشمل الانتقال بالمواصلات العامّة وبالسيّارات الخاصّة، فواتير الكهرباء والغاز، والسلع التموينية والغذائية الأساسية مثل الزيت، والأرز والسكّر؛ وفي سابقة غريبة، ارتفع سعر “الفول” كذلك الذي يعتمد عليه الفقراء وغالبية محدودي الدخل في وجبة إفطارهم اليومي.

هذه التغييرات كفيلة بأن تجعل الكثير من المُعيلين لأنفسهم ولأسرهم يفقدون عقولهم وصوابهم. فما بالنا حين نحسب كذلك ارتفاع معظم السلع والخدمات بالتبعية. ستزيد تكلفة السلع الغذائية عمومًا نتيجة ارتفاع نقلها، وسترتفع أسعار الوحدات السكنية نتيجة ارتفاع طنّ الحديد، وسترتفع جميع الخدمات، وأولها الصحة والتعليم، نتيجة ارتفاع تكاليف الإيجارات والفواتير والضرائب، والوقود. باختصار، سترتفع أسعار كل شيء بالتبعية.

ولكن، إذا كانت هذه هي الآثار البائسة، والعواقب الوخيمة التي ستطحن محدودي الدخل ومتوسطي الحال طحنًا، وستخرج كثير من الأسر من الطبقات المتوسطة إلى الطبقات الفقيرة، فعلى أيّ أساس اتُخِذَ قرار “تعويم الجنيه” على الأخصّ؟

في الواقع، فإنّ “تعويم العملة المحلية” يعتمد على نظرية مؤدّاها أنّه حين تعوّم العملة المحلّية، فإنّ قيمتها الشرائية تنخفض، وبالتالي ترتفع تكلفة الواردات، وهو الأمر الذي سيؤدّي للإحجام عن الاستيراد بالضرورة، والتوجه لتصنيع السلع التي يحتاجها السوق المحلّي لتحقيق الإشباع. وحين تتحقق الكفاية من الإنتاج المحلّي، يتحقق بالتالي فائض للتصدير. وغنيّ عن الذكر أنّ التصنيع المحلّي سيؤدّي لزيادة فرص العمل. وفي نهاية هذه الدورة الاقتصادية، تستطيع العملة المحليّة تصحيح نفسها، وزيادة قيمتها الشرائية.

وفي حالة تعويم الجنيه المصري، فإنّ متخذي القرار، يتوقعون أن يؤدّي التعويم إلى جذب الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، وإلى تشجيع حائزي الدولار إلى بيعه عبر القنوات الشرعية، أي البنوك. وبالتالي يُتوقّع القضاء على السوق الموازية. كما يفترض متخذي القرار أنّ تعويم العملة سيؤدي إلى استعادة الجذب السياحي مرة أخرى، بعد أن شهد انخفاضًا ملحوظًا في السنوات الخمسة الماضية.

تبدو هذه النظرية أنيقة! ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل تنجح هذه النظرية في مصر؟  باختصار، هل سيؤدّي تعويم العملة تلقائيّا إلى تنشيط الإنتاج المحلّي، وبالتالي إلى زيادة القيمة الشرائية للجنيه في الأعوام القليلة القادمة مثلاً؟

في الحقيقة، فإنّ افتراضات هذه النظرية قد تكون محض أوهام في مجتمع مثل المجتمع المصري يعتمد أساسًا على الاستيراد؛ إذ يستورد المصريون حوالي ثلاثة أرباع ما يأكلونه وما يلبسونه، بالإضافة إلى تكاليف بناء الوحدات السكنية وتكاليف الخدمات.  ناهيك أنّ المجتمع المصري ليس في حالة جهوزية للتحول إلى مجتمع يحقق الاكتفاء الذاتي من الإنتاج في وقت قصير، فهناك الكثير من العوائق التي تعترض الصناعة المصرية، بخلاف الدولار. يحصي المحلّل الاقتصادي، محمد هاشم، سبعة عوائق أساسية تحول دون تحقيق الاكتفاء الذاتي من الصناعة. هذه العوائق هي ندرة الأراضي الصناعية، التراخيص، الحماية المدنية، الإتاوة، قرارات القوات المسلّحة، منافسة القوات المسلّحة للصناعة الوطنية، وآخر هذه العوائق هو الدولار.

سأضيف إلى هذا الإحصاء عائقًا ثامنًا، وهو قلة الكوادر من رجال الأعمال، و رجال الصناعة، والمستثمرين. فالمشروعات الصناعية لن تحصل من تلقاء ذاتها، وإنّما يقوم بها كوادر لا تبدو متوفرة بالقدر الكافي في مصر. فلا يزال التعليم في مصر يخرج لنا “الموظف” و”المهني” وهما ضروريان بالطبع، ولكن من الذي سيهيء لهؤلاء الموظفين فرص عمل من الأساس.؟ لن يكون جهاز الدولة المهترئ بالطبع. وهناك عائق تاسع، وهو طول المدّة الزمنية التي اعتمد فيها المصريون على القروض والمساعدات والمعونات. فهل يمكن لمواطني دولة يعتمدون في رغيف الخبز على المعونة الأمريكية، وينتظرون توفير فرص العمل بناء على مشروعات استثمارية من الخليج، أن يتحولوا في وقت قصير ودون خطة إلى مستقلين، بل ومبادرين ومستثمرين ومنتجين؟ بل المفارقة هنا، أنّ قرار تعويم الجنيه نفسه جاء استيفاء لاشتراط صندوق النقد الدولي لمنح مصر “قرض” بقيمة 12 مليار دولار! كيف ننتظر تحقيق إنتاج ونحن نقترض؟

هذه العوائق التسعة التي تحول دون النهوض بالصناعة المصرية، وتحول دون جذب الاستثمارات الأجنبية، يمكنك أن تضيف إليها عوائق إضافية من ملاحظتك، عزيز القارئ. وحينها ستشاركني الشك في نجاح نظرية تعويم العملة في مصر، وقد تشاركني الرأي أنّ المشكلات قصيرة المدى التي تسببت فيها تعويم العملة، قد تؤدي إلى مشكلات أكبر وأعمق على المدى البعيد. ليكن الله في عوننا جميعًا.

 

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>